بورسعيد … مدينتي العظيمة، التي افتخر، دائماً، بانتمائي لها، وبكوني واحد من أبنائها … بلد البطولة، والبسالة، والفداء، التي سطرت أعظم ملحمة في تاريخنا المعاصر، أثناء “معركة السويس”، كما يسميها الغرب.
تبدأ الحكاية بعد قيام ثورة يوليو 1952، والتي كان أحد مبادئها، الستة، إنشاء جيش وطني، مصري، قوي، وهو المبدأ الذي واجه تنفيذه الكثير من مقاومة الغرب، آنذاك، خاصة من إنجلترا، التي تصدت، بعنف، لتأسيس ذلك الجيش المصري، محاولة عرقلة قيامه، بوضع شروط حول حجمه، ونوعية تسليحه، ومستوى تدريبه، وهي الاشتراطات التي رفضها، تماماً، الرئيس جمال عبد الناصر، وتوجه صوب الاتحاد السوفيتي، وعقد صفقة الأسلحة التشيكية، كأولى خطوات تسليح الجيش المصري، بأحدث الأسلحة، والمعدات.
ورداً منه على رفض البنك الدولي، لتمويل إنشاء السد العالي، في محاولة، جديدة، لإضعاف مصر، قرر الرئيس عبد الناصر، تأميم قناة السويس، في يوليو 1956، وهو ما كان ضربة موجعة للغرب، الذي توقع فشل مصر في إدارتها، فكان نجاحها، بمساعدة المرشدين اليونانيين، ضربة ثانية للغرب، وعلى رأسهم إنجلترا التي تم إجلاء جنودها عن مصر، وكذلك فرنسا التي فقدت إدارة القناة، فما كان منهما إلا أن تحالفتا للهجوم على مصر، متخذين من إسرائيل وسيلة لهجومهما، بافتعال عملية هجومية على مصر، بزعم التصدي لعمليات الفدائيين المصريين، وهو ما يوفر لبريطانيا، وفرنسا، غطاءً دولياً للتدخل، ومن ثم احتلال منطقة قناة السويس، وتأمين ذلك الممر العالمي.
لم تتوان إسرائيل، بالطبع، في الهجوم على مصر، واخترقت خط الحدود المصرية، وتقدمت في عمق سيناء، لإقناع العالم بإن قناة السويس أصبحت مهددة، فأصدرتا بريطانيا وفرنسا، في يوم 30 أكتوبر، إنذاراً لمصر، وإسرائيل، لوقف القتال، والانسحاب لمسافة عشرة كيلو مترات عن قناة السويس، وقبول دخول قوات بريطانية، وفرنسية، إلى مدن القناة، لحماية الملاحة في قناة السويس، وإلا تدخلت قواتهما، فوراً، لتنفيذ ذلك القرار بالقوة. ولما رفضت مصر، بالطبع، ذلك القرار، نفذت بريطانيا، وفرنسا، خطتهما، بدفع قواتهما لاحتلال منطقة قناة السويس، فتولت القوات البريطانية هجومها على بورسعيد، بينما كانت القوات الفرنسية تهاجم بورفؤاد.
لازالت تفاصيل ذلك الهجوم، السافر، والغاشم، عالقة في ذاكرتي، منذ الطفولة، عندما شنت الطائرات البريطانية، والفرنسية، هجومهما على الدفاعات العسكرية، في بورسعيد، وأذكر مهاجمة المدفعية الساحلية المصرية، في “الطابية”، كما كنا نسميها، على مدخل قناة السويس، ثم مهاجمة قوات المدفعية المضادة للطائرات، ليبدأ، بعدها، الأسطول البريطاني، والفرنسي، في قصف مدينة بورسعيد.
وهنا بدأت الملحمة الوطنية لشعب بورسعيد العظيم، الذي كانت الحكومة المصرية قد سلحته، قبل أيام قليلة، لانتباهها لاحتمال حدوث ذلك الهجوم، فأرسلت عربات الجيش، محملة بالبنادق النصف آلية، من صفقة الأسلحة التشيكية، لتوزيعها على أهل بورسعيد، وفي خلال يوم واحد، كان أبناء هذه المدينة، الباسلة، قد أجادوا استعمال تلك البنادق، وأثبتوا ذلك عند بدء هجوم القوات البريطانية، بإنزال الفوج الأول، من المظليين البريطانيين، في مطار الجميل، بأن اندفع، شباب بورسعيد، نحو المطار، وأجهزوا على ذلك الفوج، وهو ما كان كارثة على الإنجليز، الذين يعتبرون جنود المظلات البريطانية، أقوى الوحدات في الجيش البريطاني، المدربة على أعلى المستويات، لتنفيذ مهامها القتالية. بعدها انهالت الضربات البريطانية، جواً، وبحراً، على مدينة بورسعيد، غير متوقعة قدرة أهلها في الدفاع عنها، وصد الهجوم عليها، أو الشهادة من دونها.
بعد ثلاثة أيام من دفاع قوات الجيش المصري، والمقاومة الشعبية البورسعيدية، دخل الإنجليز مدينة بورسعيد، بعدما أحرقوا العديد من منازلها، وقتلوا المئات من شهدائها، وظنوا أنهم سيطروا عليها، ولم يتصوروا أن بقاءهم فيها لن يطول، لأكثر من أسابيع معدودة، عانوا خلالهم الكثير، إذ جعل الفدائيين أرض بورسعيد أشواكاً تحت أقدام معتدييها، حتى رحيلهم عنها يوم 23 ديسمبر، من نفس العام، 1956. فرغم حظر التجوال الذي فرض على أرجاء بورسعيد، إلا أنه لم يحم القوات البريطانية من غارات الفدائيين، المستمرة، والتي كان من أهمها عملية خطف الضابط الإنجليزي، مورهاوس، ابن عم ملكة إنجلترا، والقضاء عليه، بعدما فشلت، جميع، جهود قوات بلاده في العثور عليه، وما أعقبها من قتل ضابط المخابرات البريطاني، العتيد، جون وليامز، في عملية فدائية، جديدة، نفذها أحد شباب بورسعيد، البواسل، فكانت لطمة قوية على وجه الجيش والحكومة البريطانية، وغيرهم من العمليات، التي أثارت الرعب في قلوب تلك القوات الغازية.
لم ينجح أحد في إخضاع بورسعيد، وأهلها، الذين بلغت بهم العزة، والكرامة، أن رفضوا استقبال شحنات الطعام، القادمة من قبرص، وعاشوا، خلال تلك الفترة، على شحنة بطاطس، كانت موجودة في الميناء، استعداداً لتصديرها للخارج، يقيناً من قدرتهم على التخلص من العدو، في أقرب وقت … وهو ما حققوه في 19 ديسمبر، عندما تم إنزال العلم البريطاني، من فوق مبنى قناة السويس، ثم انسحاب القوات البريطانية، والفرنسية، من بورسعيد يوم 22 ديسمبر، لتدخلها القوات المصرية في يوم 23، وتستعيد مصر قناة السويس، وإدارتها، ليصير، ذلك اليوم، من حينها، عيداً قومياً لبورسعيد.
اهتزت الإمبراطورية البريطانية، التي لم تكن تغيب عنها الشمس، أمام بطولة بورسعيد، واستلهمت الشعوب بسالة شعب بورسعيد، في معارك بحثهم عن الاستقلال، وأصبحت معركة السويس وصمة عار في تاريخ بريطانيا، بينما سطرت بأحرف من نور في تاريخ مصر، واحتفلت مصر بذلك الانتصار العظيم، على صوت كوكب الشرق، السيدة أم كلثوم، تشدو بأغنيتها الشهيرة “عاد السلام يا نيل بعد الكفاح المجيد”، وغنت الفنانة الكبيرة شادية “أمانة عليك أمانة يا مسافر بورسعيد”، وأصبحت بورسعيد، منذ ذلك الوقت، رمزاً للصمود والبسالة، بعدما تصدت لعدوان أعتى القوى العسكرية، في ذلك القوت، أما نحن أهل بورسعيد فلقد ظل شعارنا “يجعلك عمار يا بورسعيد”.