الاربعاء الماضي الحادي عشر من ديسمبر مرت ذكري ميلاد أديب مصر العالمي نجيب محفوظ أول مصري حائز علي جائزة نوبل في الأدب, وأهم من كتب عن المجتمع المصري بجميع طوائفه بواقعية شديده ومن أعماقه وفي الحواري والقصور وعنه نقلت السينما المصرية الكثير من الروائع الخالدة حتي يومنا هذا, والتي نري فيها مصر منذ ثلاثينات هذا القرن وحتي أحلام فترة النقاهة وهي أخر أعمال أديبنا الكبير والتي صدر الجزء الأول منها عام 2004 في حياته والجزء الأخر بعد غادر الحياة في 30 أغسطس 2006, والتي تضمنت 150 حلما قال فيها علي لسان بطلة أحد هذه الأحلام “أن التدين الصحيح أقوي سلاح ضد التطرف”.
ولأنني من عشاق أدبة وقرأت له منذ صباي معظم إن لم يكن جميع رواياته, بل وحظيت بثلاث مقابلات هامه معه في فيلا الدكتور يحي الرخاوي بالمقطم بمساعدة الصديق العزيز يوسف عزب المحامي الكبير, بعد أن تعافي من محاولة الاغتيال الغادرة التي تعرض لها في أكتوبر 1995, وعودته لصالونه الثقافي الذي كان يضم نجوم المجتمع من كل التخصصات وكان يتحدث معنا في كل ما يخص الشأن العام في المجتمع المصري اجتماعي وإنساني وسياسي واقتصادي وكان هو بلا مبالغة أول من نبه إلي خطورة تزاوج رجال المال والاقتصاد بالسياسة وتأثيرهم علي الحكم في مصر وكان المثال الواضح وقتها ظهور المجموعة الاقتصادية وتقاربها الشديد مع جمال مبارك والتمهيد للتوريث الذي كان أحد أهم أسباب 25 يناير 2011 والتي لم يشهدها صاحب نوبل ولكنها لم تكن أبدا غائبة عن وعيه واستنباطه لحركة تغيير المجتمع والشعوب.
ما أحوجنا اليوم ليكون الأستاذ نجيب محفوظ بيننا, بماذا كان سيفسر الظواهر الشاذة والقسوة المفرطة التي يمارسها المجتمع علي ذاته وكأنه يعيش حالة من الجنون, تتشابه إلي حد كبير مع تلك الحالات التي رصدها في أول مجموعة قصصية له وكانت بعنوان ” همس الجنون” صدرت في أغسطس 1934 وكأن الزمن يعيد تكرار بعض من حوادثه في أثواب مختلفة, فلدينا أم تعذب طفلها الصغير ذو السنوات الخمس وتضربه بقسوة وتهينه وتنشر الفيديو في وسائل التواصل الاجتماعي انتقاما من زوجها الذي تركها, وأخري تلقي بطفليها علي سلالم منزل طليقها ومنهم رضيع, وطبيب أسنان وزوجته ينفقا 200 ألف جنيه لينجبا وبعد ضيق الحال يتخلصا منهما بتركهما في أحدي الحضانات وبعد القبض عليهما يصرا علي عدم تسلم أطفالهما, لدينا شباب يتفنن في وسائل انتحار يوميا, وكأنها هوجه أو موضة أو سباق محموم نحو الهاوية, مظاهر القسوة والعنف المتلاحقة حتي في التعامل اليومي البسيط العبوس والتجهم وغياب الابتسامة من الوجوه, وكأن القلوب قد هجرتها الفطرة السوية التي خلقت عليها, كلها علامات داله وواضحة عن خلل شديد بالمجتمع ونذير خطر لا يستهان به.
همس الجنون تضم 28 قصة تتناول الجانب الاجتماعي والنفسي في حياة البشر وكلها تقود إلي تلك اللحظة أو الهمسة من الجنون التي تصيب الإنسان لتقلبها رأسا علي عقب فلا تعود الحياة كما كانت قبلها, يرصد فيها لحظة فقدان العقل تلك اللحظة الفارقة التي يقرر فيها الرجل العاقل المتزن أن يركل الطوب المتناثر في الطريق بقدمه ويجرى خلفه ليعيد ركله ضاحكا متحررًا من قيود العقل والمنطق معتقدًا ان ما يفعله هو الصواب بعينه سعيدًا بلحظة جنونه.
أو ذلك الشخص الهادئ الذي يتمرد فجأة علي كل ما هو معتاد ويختار التحرر من كل ملابسه في الشارع في لحظة جنون فلماذا يدع نفسة سجينا في هذه اللفائف التي تشد علي صدرة وبطنه وساقيه حتي أخذت يديه تنزعها قطعة قطعة بلا تمهل ولا إبطاء حتي تخلص منها جميعا فبدا عاريا كما خلقه الله.
تلك الحالة يبدو لي أن المجتمع يعيشها الأن يتخلص مما يظن أنه يثقل كاهله بنفس طريقة بطل رواية همس الجنون لكن هنا لا يتم التخلص من الملابس ولا العادات اليومية السليمة, لكن يتم التخلص من الأبناء وربما الآباء والأمهات بل ومن الحياة ذاتها وكأننا نعيش حالة من الجنون.