في فبراير 2018 كتبت مقالا بعنوان ( شرق المتوسط وحروب الغاز القادمة ) في محاولة لشرح الصراع القادم في منطقة شرق المتوسط بسبب الثروات الطبيعية من الغاز الذي يعتبر طاقة نظيفة غير طاقة النفط ، ولا سيما بعد اكتشاف حقل ” ظهر ” بكميات احتياطي كبيرة .
قلت في المقال ( رغم خطورة وأهمية المياه يطفو علي السطح متغير جديد ربما يغير قواعد الصراع ويعيد ترتيب أولويات الدول لبروز الطاقة المتمثلة في الغاز هدفا استراتيجيا لدول العالم وخاصة منطقة شرق المتوسط حيث اكتشافات الغاز تتوالي وبكميات اقتصادية كبيرة سوف تعيد ترتيب الدول المنتجة للغاز من جديد فتتغير اقتصاديات الدول الحائزة عليه في سنوات قليلة ، وبالتالي تتغير موازين القوة فتبرز دول في الإقليم وتتراجع أخري ، وقد يؤدي ذلك إلي نشوء نزاعات إقليمية تتسع لتستقطب دولا كبري تنحاز – بحكم مصالحها – إلي طرف ضد الآخر فيطول أمد النزاع وتتعطل مصالح الدول في تحقيق اكتشاف ثرواتها واستغلالها في تحقيق التنمية )
الحقيقة أنه منذ بدأ الإنتاج في حقل ظهر وبكميات كبيرة اكتفت مصر ذاتيا وتوقفت عن استيراد الغاز من الخارج الأمر الذي عزز موقف مصر الاقتصادي وخفف الضغط الذي كانت تعانيه موازنتها العامة بسبب فاتورة الاستيراد الكبيرة للطاقة مما جعل الإدارة المصرية تتجه إلي تنفيذ برنامجها الطموح في إدخال الغاز الطبيعي إلي البيوت المصرية للتخلص تدريجيا من غاز البوتاجاز وأزمات اسطوانات الغاز ، وجعلها تتحدث بثقة عن توفير الطاقة للمستثمرين أصحاب الصناعات كثيفة الطاقة وكثيفة العمالة .
ولعل ذلك لم يعجب أعداء مصر .. إذ كيف لمصر وفي زمن قياسي أن تستطيع التعافي والخروج سريعا من أزمات أحداث يناير وما تلاها من محاولات عديدة لإسقاطها ؟ كيف لمصر أن تقدر علي إعادة بناء قوتها الشاملة في زمن قياسي كان يحتاج لبنائه عشرات السنوات ؟ وكيف للقيادة المصرية أن تستطيع إقناع شركات كبري عالمية بإنجاز حجم أعمال في زمن قياسي مقارنة بالمعدلات والمعايير العالمية في التنفيذ فيتحدث الرئيس التنفيذي لشركة ” إيني ” الإيطالية ويقول أن ما حدث في حقل ” ظهر ” هو إنجاز غير مسبوق للشركة يسجل في تاريخ وسجل أعمالها بفضل الإدارة المصرية والعاملين المصريين .
لم تكن الرؤية غائمة عند صانع القرار المصري ، وكانت الإدارة المصرية تري الصورة بوضوح شديد ، وكانت تدرك حجم التحديات المقبلة عندما تتحول مصر إلي مركز إقليمي للطاقة في المنطقة بما تملكه من مصانع إسالة للغاز لا مثيل لها في المنطقة – خصوصا القريبة من أوروبا المستهلك الأكبر للغاز – بالإضافة إلي احتياطي كبير من الغاز قابل للتصدير بعد تحويله إلي قيمة مضافة كغاز مسال .
لذلك كان التساؤل – وما زال – من المتنطعين والموتورين ، وأصحاب الأجندات ، والمنكرين لكل إنجاز يحدث علي أرض مصر : لماذا نشتري كل هذا السلاح .. لماذا الرافال ، والميسترال ، والغواصات ، وأنظمة متطورة من الدفاع الجوي ، وصواريخ حديثة ؟ .. لماذا تعزز مصر من أسطولها وقوتها البحرية تحديدا لتصبح من الدول المصنفة عالميا في ترتيب متقدم جدا يسبق دولا كبري !
ولماذا قاعدة محمد نجيب في المنطقة الشمالية الغربية وكأنها جيش في حد ذاتها ؟ لماذا هذا القرب من حدودنا الغربية ؟
لماذا قبل هذا وذاك كان الإسراع في عقد اتفاقية تعيين حدود بحرية مع قبرص واليونان ، ولماذا وبنفس السرعة – رغم ظروف الوطن الصعبة – كانت تعليمات القيادة إنجاز حقل ظهر واختصار المدة إلي النصف ؟
هذه الأسئلة أجاب عليها “بهلول” استانبول مع “دمية “حكومة الوفاق المنتهية شرعيتها في طرابلس ليبيا بالاتفاق الأمني والبحري فاقد الشرعية والقانونية الذي وقعه الطرفان في تركيا مؤخرا والذي يسمح لتركيا بإنشاء قاعدة عسكرية في ليبيا وإمداد ميليشيات طرابلس الإرهابية بالسلاح كما يتيح للطرفين تعيين حدودهما البحرية في المتوسط لتسطو تركيا علي الغاز الموجود بها كنوع من البلطجة غير المسبوقة في القانون الدولي وقانون البحار !
التحركات التركية في المنطقة تدعو إلي القلق واليقظة والتحالف مع السراج منفردا وبالمخالفة لاتفاق الصخيرات – الذي انتهي فعليا بعد انقضاء فترة تمديده لمدة عام – يؤكد أن الهدف هو مصر وحصارها ، وأنه مطلوب ألا تنتهي مصر من مشروعها في التحديث والتطوير خصوصا وأنها تقفز قفزات كبيرة علي الأرض وتطوي كثيرا من المسافات ، وتختزل كثيرا من الزمن .
في كل الأحوال تركيا غير قادرة علي مواجهة مصر في البحر لأنها تعلم قدرات البحرية المصرية ، وتعلم أيضا قدرات سلاح الطيران المصري جيدا ، والمواجهة إذا وقعت ستكون بهذين السلاحين ، وهما سلاحا الحروب التقليدية الحديثة ، وأعتقد أن تركيا تريد فقط إشغال مصر عن الاستمرار في التنقيب ورفع كفاءة آبار حقل ” ظهر ” فتؤثر علي مصر كمركز إقليمي للطاقة لحساب قطر .
الأخطر – وهو الهدف الأساسي من التحرك التركي المدروس مع سراج طرابلس – هو توسيع قاعدة الإرهاب في ليبيا وجعلها نقطة تجميع وإعادة انتشار لداعش صوب الحدود المصرية من الغرب بعد الفشل الكبير للإرهاب في الشرق .
وفي ذات المقال كتبت (المنطقة الآن تشهد تحولات ضخمة وسريعة .. فبينما تتقلص داعش في العراق وسوريا ويتم إخراجهم خروجا آمنا دون القضاء عليهم تمهيدا لنقلهم إلي بؤر صراع أخري وقد حدث بالفعل .. كانت الوجهة هي ليبيا عبر تركيا ثم المتوسط ، لذلك كان من المهم تأمين مياهنا بسلاح بحري قادر علي الردع والمواجهة بالتنسيق مع الأصدقاء في قبرص واليونان )
وبما أن تركيا هي عراب المؤامرة في المنطقة تحت زعم إعادة الخلافة الإسلامية ، وهي “مقاول الأنفار” وتوريد الإرهابيين فإنها ستقوم قطعا بنقل الدواعش الذين خرجوا من سوريا والعراق بحماية أمريكية وتركية إلي مستودع الإرهاب في قواعد تركيا في ليبيا !
مصر تدرك خطورة الأمر ، والقيادة السياسية أعتقد أنها حسبت جيدا هذا الأمر وتداعياته ، وأثق في رؤيتها وفي قدرتها علي حسم الأمر علي الأراضي الليبية قبل أن يستفحل وتتحول ليبيا إلي أرض مستباحة لكل القوي الإقليمية والدولية كما هو الوضع في سوريا .
الأراضي الليبية هي عمق استراتيجي وأمن قومي لمصر ، لذلك تسعي مصر بكل الطرق إلي مساندة ليبيا لاستعادة الدولة الوطنية وجيشها الوطني وفي ذلك تبذل مصر كل المساعي وعلي كافة الأصعدة .
هل أدرك المتنطعون الصورة ، وهل ما زالوا يسألون لماذا اشترت وتشتري مصر السلاح ؟
ويبقي السؤال : هل تسبق حروب الغاز والطاقة حروب المياه ؟ سؤال تجيب عنه الأيام القريبة القادمة .. وسيظل المغيبون علي حالة الإنكار التي يجيدونها .. !