مصر زاخرة بالخيرات، والثروات، وهو ما أكرره دوماً، مستشهداً في ذلك بخبراتي، وتجاربي … فعندما توليت رئاسة الأقصر، وجدت مشروع عظيم في فكرته، وهدفه، مقام بالفعل، وهو الغابة الشجرية، على مساحة 200 فدان، التي تم إقامتها بالتعاون بين وزارتي الإسكان، والبيئة، كمشروع استرشادي، تمهيداً لتطبيقه في باقي محافظات، ومدن، مصر.
تقوم فكرة المشروع، ببساطة، حول كيفية الاستفادة من مياه الصرف الصحي، المجمعة في محطات الصرف الصحي، الموزعة في كل ربوع مصر، بدلاً من إلقائها في الصحراء، وفي نفس الوقت دون الحاجة إلى إخضاعها للمعالجات المكلفة مادياً، التي تتيح إعادة استخدامها. فوجد القائمون، على ذلك المشروع، أنه يمكن الاستفادة من مياه الصرف الصحي، بعد المعالجة الأولية، فحسب، في زراعة الأشجار الخشبية، وليس الزراعات والنباتات التي يأكلها الإنسان.
وبناءً عليه، كانت التجربة الأولى، في الأقصر، بزراعة تلك الغابة الشجرية، اعتماداً على مياه الصرف الصحي للمدينة، بعد معالجتها، بأشجار الكايا، والماهوجني، والبلوط، وهي أشجار استوائية، توفر نوعيات متميزة من الأخشاب، وتحتاج لتربة بكر في الصحراء، وطقس حار جداً، وهي المميزات المتوفرة في صعيد مصر، كما أنها تقبل هذا النوع من المياه، على أن يكون ريها بالغمر. كان عمر تلك الغابة الشجرية، عند وصولي للأقصر، عشر سنوات، فكنت عندما أمر بها، أو أسير فيها، أشعر وكأنني في إحدى غابات وسط أفريقيا الشهيرة.
إلا أن ذلك المشروع واجهته مشكلتان؛ أولهما أن الأشجار المزروعة كانت بحاجة إلى 25 عاماً، ليكتمل نموها، وبالتالي إنتاجيتها من الأخشاب المميزة، أما المشكلة الثانية، فظهرت في استغلال عدد من المواطنين، الغير شرفاء، لباقي المياه المتوفرة من طاقة محطة الصرف الصحي، في زراعة الخضراوات، والفاكهة، وهو ما يعتبر جريمة، بكل المقاييس، لما تمثله المحاصيل الناتجة عن الزراعة بمياه الصرف الصحي، غير المعالجة، من خطورة قصوى على الصحة العامة، لما تسببه من أمراض. تمكنا، والحمد لله، من التصدي للمشكلة الثانية، بكل حزم، بالقضاء، تماماً على تلك الزراعات، وبتقديم المخالفين إلى العدالة، لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، حيال جريمتهم الشنعاء، وطالبت النيابة العامة بتطبيق أقصى العقوبة عليهم.
ومن هذه الأزمة، بدأنا التفكير في استغلال باقي طاقة محطة الصرف، التي تهدر في الصحراء، وباستطلاع الآراء المتخصصة، وجدنا أن هذه المياه تصلح لزراعة أنواع أخرى من النباتات، ومنها نبات الجتروفا، الذي يكتمل نموه بسرعة، نسبياً، بعد 3 سنوات، ويتم الاستفادة منه عن طريق إرسال بذوره إلى مصانع خاصة، حيث يتم عصرها، لإنتاج الزيت الحيوي، ووقود ديزل. وهناك تجربة، حية، تمت في عام 2012، حيث تم استخراج وقود الديزل الحيوي من نبات الجتروفا، واستخدمته شركة الطيران الألمانية، لوفتهانزا، في رحلاتها الداخلية، بين فرانكفورت وهامبورج، بعدما ثبت كفاءة هذا النوع من الوقود. إلا أن المشكلة، التي واجهته في أوروبا، أن زراعته الجتروفا ستتم على حساب عدد من المحاصيل الزراعية، الهامة، في ظل محدودية الرقعة الزراعية المتاحة، فضلاً عن عدم ملاءمة الطقس اللازم لزراعته، إذ يحتاج لطقس حار، وهو ما جعل دول، مثل الهند والمكسيك، تتفوق في زراعة الجتروفا لهذا الغرض.
كما تمتد فوائد هذا النبات، إلى أن إنتاجه من عصر الزيوت، يستخدم في صناعة الجلسرين، والصناعات الكيماوية المختلفة، وتستخدم قشور بذوره في صناعة الأخشاب الصناعية، ويبلغ محصول الشجرة الواحدة ستة أطنان من البذور، كما أفاد الدكتور أحمد الصباغ، مدير معهد بحوث البترول المصري، مضيفاً أن زراعة الجتروفا تعرف، حالياً، باسم “زراعة البترول”. وبناءً على تلك المعلومات القيمة، والدراسات المتخصصة، قررت البدء في استغلال باقي المياه المتوفرة من محطة مياه الصرف الصحي، بالأقصر، لزراعة الجتروفا، بعدما أكد الخبراء إمكانية زراعة عشرة آلاف فدان، قسمتها إلى مرحلتين، كل منها خمسة آلاف فدان، في صحراء الأقصر الشاسعة، مستغلاً باقي مياه الصرف الصحي المعالجة بالمرحلة الأولى. ولقد حققت هذه الزراعة نمواً كبيراً، خاصة أن الشجرة تعطي إنتاجها الجيد بعد 3 سنوات. كما تم استغلال الظهير الصحراوي، ووفرة المياه، وملاءمة المناخ، ووجود الأيدي العاملة، للتوسع في زراعة الجتروفا، وأصبح مندوب مصنع عصر الجتروفا، من السويس، موجود بصفة شبه دائمة في الأقصر، لجمع المحصول كل عام.
واليوم، ومع الزيادة المضطردة في أعداد محطات الصرف الصحي، في مصر، فإن المهندس عاصم الجزار، وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، قد أصدر عدداً من التعليمات، والقرارات، للاستفادة من مياه الصرف الصحي، بعد معالجتها أولياً، في بعض الزراعات، مثل الجتروفا، والجوجوبا، المعروف بإنتاجيته لزيوت غالية الثمن، تدخل في صناعات هامة، مثل الأدوية، ومستحضرات التجميل، ورغم أن موطنها الأصلي هو المكسيك، إلا أنها انتقلت إلى مصر، وأصبحت من كنوزها الزراعية، الحديثة، خاصة بعد توقف صيد الحيتان عالمياً، فأصبحت هذه الشجرة هي المصدر للزيوت البديلة، اللازمة للصناعات المختلفة. كما يتابع السيد المهندس عاصم الجزار، حسن استغلال محطات الصرف الصحي، في باقي محافظات مصر، بزراعة الشجيرات، التي تدخل في صناعات الأخشاب الصناعية، التي تحتاجها مصر في الفترة القادمة.
ولقد سعدت مؤخراً، وأنا أتصفح شبكة الإنترنت، بحثاً عن نبات الجتروفا، أن قرأت عدداً من الأخبار الدولية، التي تفيد بأنه يزرع، حالياً، في الغابة الشجرية في الأقصر، جنوب مصر.