لواء دكتور/ سمير فرج يكتب : الفريق سعد الدين الشاذلي وحرب 73
في بداية شهر سبتمبر 1973، كنت طالباً، في كلية القادة والأركان المصرية، وحينها أخبرنا السيد مدير الكلية، آنذاك، اللواء عماد ثابت، رحمة الله عليه، أن السيد الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، سيزور الكلية، على مدار يومين، للاجتماع بالدارسين، البالغ عددهم 160 ضابطاً، من ألمع، وأمهر، الضباط، من كل أفرع، وإدارات، القوات المسلحة.
وفي الموعد المحدد، حضر الفريق الشاذلي، وقضى معنا يومين كاملين، من الساعة الثامنة صباحاً، حتى الثامنة مساءً، حاملاً معه، “التوجيه 41″، والذي هو خطة اقتحام، وعبور، قناة السويس، بعدد 12 موجة من قوات المشاة، بعد تنفيذ الضربة الجوية، والتمهيد النيراني بالمدفعية ضد خط بارليف، والاحتياطيات الإسرائيلية المدرعة، في العمق.
كان الفريق الشاذلي رحمه الله، قد أسس، أثناء فترة حرب الاستنزاف، لمبدأ جديد بالقوات المسلحة، وهو إصدار كتيبات، أطلق عليها اسم “التوجيهات”، يقدم، في كل طبعة منها، أفكار جديدة لرجال القوات المسلحة، تساعدهم على حل العديد من المشكلات، في فترة حرب الاستنزاف، حتى صدر “التوجيه 41″، ليكون هو الخطة الحقيقية، المفصلة، لاقتحام قناة السويس، وتدمير خط بارليف، والتي كانت، ليس فقط من وجهة نظري، هي أساس نجاح حرب 73 كلها.
تم توزيع مسودة “التوجيه 41″، علينا، قبل اللقاء بعدة أيام، شريطة بقاء هذه الوثائق في الكلية، لدراستها وعرض المقترحات، وقد ثبت صواب، وحسن تقدير، الفريق الشاذلي، في قرار سيادته بإشراك طلبة كلية الأركان، في مناقشتها، باعتبارهم النخبة المميزة من ضباط القوات المسلحة، الذين يمثلون قياداتها الحالية، والمستقبلية.
كان الفريق الشاذلي قد وضع هذه الخطة، موضحاً تحديات، ومشاكلات، عمليات العبور، واقتحام خط بارليف، وكان منها، على سبيل المثال، أنابيب النابالم التي زرعها العدو الإسرائيلي، في عمق القناة، لضخ النابالم وتحويل مياه القناة إلى جهنم، تحرق القوات المحاولة للعبور، وكان منها مشكلة ارتفاع الساتر الترابي، التي يصعب معها أسلوب حمل الأسلحة والمعدات والذخائر، كما تعرض “التوجيه 41” لمشكلة اقتحام النقط الحصينة بخط بارليف، وعددهم 32 نقطة، فتم إعداد خطط، فرعية، مفصلة، لمهاجمة كل نقطة، وحجم القوات اللازمة، طبقاً لحجم العدو الموجود بها، وعدد الدبابات، وشكل دفاعات النقط.
فتناولت الخطة، في “التوجيه 41″، أساليب مهاجمة خط بارليف، ومجموعات فتح الثغرات في الساتر الترابي، وأسلوب عمل مجموعات الصاعقة البحرية لإغلاق أنابيب النابالم، وطريقة وتوقيتات دفع المفارز المتقدمة، في عمق سيناء، لصد احتياطات العدو المدرعة، ثم عمل مجموعات الدخان لستر قوات العبور، تلا ذلك خطة عبور 12 موجة، من قوات المشاة، المدعومة بالصواريخ المضادة للدبابات، بما يضمن وجود حجم مناسب لصد المدرعات الإسرائيلية في كل توقيت، ثم تخطيط ترتيب عبور القادة، والقيادات، على مختلف المستويات في هذه القوارب المطاطية.
ووصلت دقة التخطيط، إلى تحديد أسماء الجنود الذين سيحملهم كل من هذه القوارب، ومكانه فيها، وتحديد ما يحمله كل منهم من أسلحة وذخيرة، فحمل كل منهم لغمين مضاد للدبابات، واحداً على صدره، والثاني على ظهره، ليتم وضعهم فور العبور إلى سيناء، لصد وإيقاف الدبابات الإسرائيلية. والحقيقة أن هذا التوجيه لم يغفل أي من التفاصيل، حتى البسيطة منها، لضمان وإتقان النجاح، حتى مكان تثبيت علم مصر في كل قارب، وتحديد توقيت رفعه على الضفة الشرقية للقناة. كما تم التفكير في سترة جديدة للجندي، تناسب تلك مرحلة، لتسع كل احتياجاته، من الذخيرة، والمياه، والطعام، لمدة 3 أيام، وتم ابتكار سلالم الحبال، التي يستخدمها الجنود للصعود، بالأسلحة والمعدات، على الساتر الترابي، وغيرها من الابتكارات والإبداعات التي تضمن تحقيق نجاح المهمة.
استمتعنا، على مدار يومين، بنقاش، علمي، عسكري، على أعلى مستوى، في إطار ديمقراطي، أداره الفريق سعد الدين الشاذلي، كنا جميعاً نناقشه، دون رهبة، أو خوف، والكل يطرح أفكار مبتكرة، علماً بأن هذه الحرب هي مصير مصر، والأجيال القادمة. كان الفريق الشاذلي، بالطبع، ملماً بكل التفاصيل الدقيقة، بكل ذكاء، لذلك مع انتهاء اليوم الثاني، كان “التوجيه 41″، قد تم تعديله، وفقاً لنتائج المناقشات، والدراسات، وبدأ بعدها إصدار الخطط التفصيلية، منه، للجيوش الميدانية، والفرق، والألوية، والكتائب، التي ستقوم بالتنفيذ. وبعدها بأسبوع حضر الفريق الشاذلي بياناً عملياً، تم فيه عرض جميع خطوات، وتفاصيل، عملية اقتحام قناة السويس، بدءاً من مضخات المياه، التي اقترحها المقدم باقي زكي، لعمل فتحات في الساتر الترابي، إلى سترة الجندي المقاتل، إلى سلالم الحبال، إلى أشكال، ونوعية، القوارب المطاطية … وبعدها اطمأن إلى توفير كل مطالب، واحتياجات، القوات القائمة بالعبور، واقتحام قناة السويس، وخط بارليف.
وعندما جاء يوم السادس من أكتوبر، كان الفريق الشاذلي في مركز القيادة، يتابع، بنفسه، موجات العبور الاثنا عشر، حتى أنه بحساباته الدقيقة، كان يحصي ما عبر، وما تبقى، من المقذوفات المضادة للدبابات، فيقيس، بذلك، قدرة قواتنا على صد الاحتياطات المدرعة الإسرائيلية، والتي كانت هي الشاغل الأهم لنا، جميعاً، لإنجاح عملية العبور. وهكذا نجحت الموجات الأولى من عبور قواتنا إلى الضفة الشرقية للقناة، ليضع 200 ألف مقاتل مصري أرجلهم فوق رمال سيناء الغالية، ويتمسكوا بها، أو يبذلوا أرواحهم فداء كل شبر منها.
كانت إدارته للعمليات، خلال حرب أكتوبر، مثالاً للفكر المسلح بالعلم العسكري، والخبرة الميدانية، خاصة في ظل مسئولياته، بصفته رئيس الأركان، عن إدارة العمليات، خلال سير المعركة. ولا يبقى لنا غلا الإقرار بأن الفريق سعد الدين الشاذلي، رحمة الله عليه، من عظماء العسكرية المصرية، ولخطته يعود الفضل، بعد الله، سبحانه وتعالى، في تحقيق النصر في حرب أكتوبر 73، وسوف تظل ذكراه، إلى الأبد، بأنه قائد مخلص، وعظيم، قدم لمصر، ولقواتها المسلحة فكراً عظيماً، خلال التخطيط، وإدارة العمليات، في حرب أكتوبر المجيدة، فأصبح من أفضل القادة العسكريين في تاريخ مصر … وإن ظلمته السياسة.