لواء دكتور سمير فرج يكتب : ذاكرة الفيل
بقلم لواء دكتور : سمير فرج
كانت بداية ظهور مقولة “The Elephant has a good memory”، في الهند وباكستان، قبل انتشارها، فيما بعد، في كل دول العالم، لتصبح واحدة من أهم المقولات المأثورة، وتعني “الفيل له ذاكرة قوية”.
وترجع قصة هذه المقولة إلى أنه في بلاد الهند وباكستان، يتم تدريب الفيلة منذ مولدهم، في مناطق محددة هناك، خاصة الأفيال البرية، لطبيعتها الغير مسيطر عليها، فهي تحتاج إلى تدريب لفترات طويلة، قبل استخدامها في الأعمال الشاقة داخل الحقول والغابات، كنقل الأشجار، أو للعمل في السيرك، أو حدائق الحيوان، التي تستلزم التركيز على الأوامر بالرقود، أو الوقوف على رجلين فقط، أو الجري في حلبات السيرك، والاشتراك في الأعمال البهلوانية، مع أنواع أخرى من الحيوانات.
وكل نوع من هذه التدريبات يحتاج إلى مدربين مهرة، وأماكن متخصصة، ليتم تطويع الفيل لتنفيذ هذه الأوامر، من خلال المدرب، الذي يحمل في يده سيخاً، طويلاً، مدبباً، ينغز به جسم الفيل، وهو يسبب له ألماً، يصل لحد نزف الدماء، نتيجة غرز سن السيخ بجسمه، لإجباره على إطاعة الأوامر، وخلال التدريب يكون الفيل مقيداً بسلاسل من حديد، لمنعه من الهرب أو التعدي على حارسه. وتستمر فترة تدريب الفيل، على الأعمال العادية في الزراعة، والعمل في الغابات، لنحو 4 شهور، أما فترة تدريب الفيل على أعمال حديقة الحيوان، أو السيرك، والتعامل مع الجمهور، فتستغرق حوالي عام كامل، تسوده القسوة، لتعليمه هذه الحركات. ثم تبدأ المرحلة الثانية، لتدريب الفيل، عن طريق مكافأته بأنواع من الفاكهة، أو المأكولات التي يحبها، ليرسخ للأوامر ويتقبلها. وما أن ينهي الفيل تدريباته، يتم بيعه، وتوزيعه، على مناطق العمل الجديدة.
وفي أحد الأيام، وقعت حادثة، في إنجلترا، هزت الرأي العام كله، خلال أحد حفلات السيرك في لندن، وأثناء تقديم فقرة الأفيال، مع حيوانات أخرى، إذ اندفع أحد الأفيال خارج الحلبة، مستهدفاً أحد الحاضرين، وقام بركله ودهسه، بعنف، حتى أرداه قتيلاً. أثار تصرف الفيل استغراب ودهشة الجميع، خاصة أنه لم يتعرض لأي شخص آخر من الحضور، ولم تظهر عليه علامات الهياج العصبي. قلبت هذه الحادثة الرأي العام البريطاني، كله، خاصة أن معظم رواد حفلات السيرك في لندن من الأطفال، الحاضرين مع ذويهم، أو ضمن رحلات المدارس، وتعالت الأصوات تطالب بمنع استخدام الفيلة، في عروض السيرك، لصعوبة السيطرة عليها، فبينما عروض الأسود والنمور تتم داخل أقفاص حديدية، فإن الأفيال لا يمكن وضع سياج حولها، لقدرتها على تحطيمه.
استهوى هذا الحدث أحد الباحثين البريطانيين، فبدأ في البحث عن هوية الرجل الذي قتله الفيل، وبعد تعقب طويل لتاريخه، اتضح أنه كان يعمل في أحد مراكز تدريب الأفيال، في الهند، قبل أن يهاجر إلى إنجلترا، مع أسرته، وبالبحث في سجلات ذلك الفيل، اتضح أنه تم استيراده من الهند، وبتدقيق التحري عن تاريخ الفيل، اتضح أنه كان يتم تدريبه في نفس المركز الذي كان يعمل به القتيل، وتبين أن هذا الرجل الهندي، الذي قتله الفيل، خلال عرض السيرك، هو الذي درب الفيل، لعدة سنوات، في مركز تدريب الأفيال في الهند، وهو نفسه الذي كان ينكز الفيل بالسيخ، ويؤلمه، لينفذ الحركات المطلوب منه تأديتها، فظلت صورة المدرب عالقة في ذهن هذا الفيل، رغم مرور أعوام طويلة، وحتى بعد نقله من الهند إلى إنجلترا، حتى انتقم منه.
بعد معرفة الحقيقة، أصدرت الهند وباكستان بعد ذلك تعليمات محددة، تمنع تواجد هؤلاء المدربين، مطلقاً، بعد انتهاء عملهم في هذه المراكز، في أي مناطق يتواجد بها أفيال مدربة، وعادت الأفيال مرة أخرى إلى عروض السيرك في بريطانيا، بعد أن كُشفت حقيقة الموضوع، وكانت السبب في ترديد مقولة أن “The Elephant has a good memory”.
وانتشرت هذه المقولة، حتى في خطب الزعماء، ورجال السياسة، وكان أول من استخدمها هو الجنرال ضياء الحق، عندما قام بالانقلاب الأبيض، في باكستان، في يوليو1977، وأطاح فيه بحكومة ذوالفقار علي بوتو، وحكمت عليه المحكمة بالإعدام، ولم يقبل ضياء الحق طلبات دولية عديدة، لتخفيف الحكم، مجيباً عليها، في كل لقاءاته الإعلامية، وخطبه السياسية، بجملته الشهيرة “The Elephant has a good memory”، أي أن باكستان لن تنسى ما فعله بوتو بشعبها، وبالفعل، تم تنفيذ حكم الإعدام شنقاً على بوتو، وبعدها أصبح هذا المصطلح يستخدم على ألسنة معظم السياسيين، ضد خصومهم، خصوصاً في المعارك الانتخابية.
تذكرت هذه المقولة، مؤخراً، والتي تعلمتها من أحد قادتي، الذي كان يعمل ملحقاً عسكرياً في باكستان، في عهد الجنرال ضياء الحق، تذكرتها وأنا أراقب بدء الرئيس ترامب لمعركته الانتخابية، لفترة رئاسة ثانية، في البيت الأبيض، وهو يهاجم الديموقراطيين، بسبب أخطائهم، في الفترة السابقة، تحت حكم الرئيس السابق أوباما، ويقول لهم أننا لم ننس كل أخطائكم، خصوصاً في الاتفاق النووي الأمريكي الإيراني.
أما نحن فأجزم بأن كل منا يحمل في عقله ذاكرة الفيل، سواء في حياته العملية أو الشخصية، وأعتقد أنه فيما يتعلق بمصالح مصر العليا وأمنها القومي، يجب أن يكون لدينا جميعا تلك الذاكرة القوية، للمحافظة على ثوابتنا، وقيمنا، وأمننا القومي.