سحر الجعارة تكتب .. ضحية السعار الجنسي
بقلم سحر الجعارة
أنا «أم» في منتصف الخمسينيات، ربيت أولادى على الأدب والأخلاق الرفيعة والتدين الوسطى، علمتهم أن الحياة «اختيارات» ولم أفرض إرادتى لا أنا ولا والدهم عليهم حتى في اختيار الجامعات، أو العمل، أو الارتباط العاطفى والاجتماعى.. كنت أراقب سلوكياتهم عن بعد، أتعرف بلباقة على أسر الأصدقاء وأحول العلاقة إلى «علاقة أسرية»، وأسمح لهم بهامش من الحرية حتى لا «أخنقهم».
تزوجت ابنتى الكبرى من شاب «إبن حلال»، وظل معى الولد الذي يدرس بالجامعة والبنت التي تخرجت حديثا من كلية الطب وبدأت تعمل.. حياتنا بسيطة نعيشها في هدوء، نسكن في حى راقٍ ومعاش زوجى يكفينا والحمد لله.
تقدم لخطبة ابنتى العديد من الشباب، لكنها قررت ألا تتزوج إلا بعد الماجستير، واحترمت رغبتها، وبالقطع كنت أسهر الليالى وهى في عملها في قلق وتوتر وكان زوجى يطمئننى ويقول لى «ابنتك قوية».. كنت أقدر طموحها وأوقات عملها المرتبكة، ودراستها بجدية.. وقررت أنا ووالدها شراء سيارة بالتقسيط لها ثم ارتفعت الأسعار فأجلنا الفكرة.
فجأة دخلت ابنتى من باب المنزل ملابسها ممزقة ومنهارة تماما ودموعها لا تتوقف، ومن بين عويلها وصراخها عرفت أنها تعرضت للتحرش على مقربة من منزلنا خلال عودتها ليلا إلى المنزل.. ارتبكت وأخذت أبكى بهستيريا، ونظرت حولى فوجدت الرجال «زوجى وابنى» يبكون مثلنا.
حتى بدأ زوجى يضمها إلى حضنه ويقرأ لها القرآن، وصرخ فينا لنستعيد وعينا من الذهول، وطلب منى أن آخذها للاستحمام.. وتشاجرنا: زوجى يصر على تهدئة البنت وإنهاء الموقف وأنا أصر على الذهاب لقسم الشرطة.
لم تكن حالة ابنتى تسمح سوى بالذهاب إلى فراشها، وخفت أن تصاب بانهيار عصبى، اتصلت بطبيب من أقاربنا وطلبت منه اسم دواء مهدئ، ألح في معرفة السبب فرويت له وأنهى المكالمة وجاء إلينا.. أعطاها حقنة منوم وطلب منا جميعا ألا نضغط عليها في معرفة التفاصيل وأن نتركها لاختيارها.. وكان الاختيار قد حسم ببقائها في الفراش.
بقيت إلى جوارها وكانت تنتابها حالات فزع، أقل من ساعتين واستيقظت، وأخذت تروى لى أن «مجموعة شباب» كانوا يدخنون ويضحكون بحالة هيستيرية في الشارع، ما إن اقتربت منهم حتى التفوا حولها وأخذوا يتلذذون بإيلامها في «أماكن حساسة» وهى تحاول الإفلات من بين أياديهم القذرة.. وفجأة انشقت الأرض عن شاب «يركب موتوسيكل»، نزل وبدأ يبعدهم ودارت بينهم معركة وقال لها: «اجرى.. اهربى».. فتركتهم وجاءت جرى إلى البيت.
سألتها بهدوء: هل تعرفين هؤلاء الشبان أو الشاب الذي أنقذك منهم.. كانت مشوشة وقالت «لا».. مرّ على هذه الواقعة حوالى شهر وابنتى تعيش في عزلة كاملة لا تأكل ولا تشرب ولم تنزل من البيت إلا مرة واحدة لتقدم على إجازة من عملها.
حتى بدأت أشك أن الموضوع تجاوز «التحرش» وصارحت زوجى بمخاوفى فقال لى ألا أتحدث إطلاقا في هذا الأمر.. وبالفعل صمت، لكنى لا أعرف كيف أتعامل معها: هل أضغط عليها لتعود إلى حياتها الطبيعية أم ألجأ إلى إخصائى نفسي ؟.. رغم أنها طبيبة.. هل أتحدث معها عما تعرضت له لتفضفض أم أتجاوز هذا الموقف المرعب؟.. لم أعد أدرى كيف أتعامل معها.
أصبحت ابنتى خجولة منطوية وكأنها ارتكبت ذنبا وهي «بريئة».. إنهم وحوش بشرية لا رادع لهم.. كيف أسترد ابنتى من تلك الذكرى الشنيعة وأعيد إليها ثقتها بنفسها، خاصة أن حياتها المهنية والدراسية تعطلت؟.. وهل ستصبح ابنتى صالحة إلى الأبد أم أنها أصبحت «معقدة» من الرجال.. أرجو أن تنصحينى فأنا شارفت على الجنون ولم أعد أتحدث حتى مع زوجى احتراما لرأيه.
يا سيدتى:
سوف تصدمين إذا علمت أننى سبق أن طالبت بـ«الإخصاء الكيميائى» للمتحرش، كوسيلة ردع للمتحرش، (بإعطاء أدوية معينة لتقليل فرز هرمون التستوستيرون).. وهذا بناء على فتوى الشيخ السعودى «سعود بن عبدالله الفنيسان»، والتى أيدها بعض علماء الأزهر.
فحالة «السعار الجنسى» إن لم تنل من عذرية الفتاة إلا أنها تنزع عنها كرامتها، لكن المآساة أننا نستسلم لعملية «الذبح» الذي تتعرض له الأنثى خوفا من الفضيحة، وننسى أن «القصاص» هو أول درجات رفع المعاناة عمن تعرضت للتحرش!.
رغم أن «نهى رشدى» كانت أول من حصلت على حكم قضائى بإدانة المتحرش عم 2008، وقررت أن تواجه المجتمع بكل شراسته ولم تخبئ جرحها بين ضلوعها، ورغم أن القانون غلظ عقوبة التحرش.. إلا أننا نكتفى بجلد «الضحية» وسلخها خوفا من «الفضيحة»!.
وعموما لكى تهدأين بعض الشيء اعلمى أن آخر إحصاء لمركز «التعبئة والإحصاء» عن عامى 2016/ 2017، يفيد بأن 99% من الفتيات تعرضن للتحرش في الشارع والمواصلات العامة وجهة العمل.. واعلمى أيضا أن لمس أي «جزء حساس» في الأنثى هو قانونا «هتك عرض».. لكن للأسف فات أوان القصاص ومحاسبة الأوباش المجرمين.
كل ما ذكرته سالفا حتى تتأكدى من أن ابنتك «معذورة»، وأن ما واجهته أعنف من أن تتحمله أعصابها، وأن فتح ملف العنف سيعيدها إلى ذكرى مؤلمة.
نحن في مصر للأسف لا نعترف بـ«التأهيل النفسى» لضحايا العنف، لتستطيع الضحية أن تتأقلم مع الحياة والمجتمع بعد تعرضها لهذا الفعل، لابد من التعامل معها باعتبارها «ضحية» وليست مذنبة، وأن نحترم ألمها وصمتها.. ونستمع لشكواها إذا باحت بما يوجعها.
ابنتك في حاجة إلى عملية تغيير للبيئة التي تذكرها بالحادث، فلو كانت إمكانيات الأسرة تسمح بالسفر أو بنزهات قصيرة، لابد أن تخرج من الحى الذي تعرضت فيه لهذا الحادث البشع.
أما اللجوء إلى «طبيب نفسي» فلابد أن يكون بقرار منها، حتى لا تتصور انها أصبحت عبئا عليكم، وهى طبيبة وتعرف توقيت اللجوء لهذا التخصص.
واعلمى أن الأمر لو تجاوز «التحرش» لما جاءت باكية وملابسها ممزقة، كنت سترين علامات «اغتصاب»، لا قدر الله، فلا يأخذك الخوف إلى آخر المدى.. فيجب التعامل بحكمة وحذر لأن البنت «مجروحة».. والعنف حتى لو مشادة عادية يترك شرخا في نفس الإنسان.
اعلمى أيضا أن ابنتك ستجد صعوبة في الزواج، مثل أي فتاة تعرضت للتحرش، فلا داعى لممارسة أي ضغوط عليها، فسوف تحب وتختار وتنسى ما مرت به.. ولا تتخيلى أن حياتها المهنية توقفت فسوف تتجاوز أزمتها وتواصل مسيرتها العلمية والمهنية.
ما يطمئن في حالة ابنتك أنها «طبيبة» تعلم جيدا تقلبات وتغيرات النفس البشرية، وما يستتبع الاكتئاب والعزلة من تغيرات بيولوجية.. ولكن لا يجب تركها «وحيدة» تخاطب الأشباح الذين استباحوا عرضها وشوهوا وعيها وعقلها الباطن.
امنحيها فرصة التطهر من الألم بالترويح عن النفس، وأنت أعلم منى بما تحبه من عبادات أو أفعال أو أماكن.. وكونى صديقة قريبة منها انصتى حتى لصمتها.. وحاولى تمزيق خيوط الصمت بذكرى حلوة أو دعابة أو استدعى صديقة مقربة منها.. لابد أن تتوافقوا جميعا على إنهاء عزلتها بهدوء وسلاسة.
اخلقوا جو من «البهجة» حولها تكون طرفا فيها حتى لا تتصور أنكم تخليتم عنها.. وبعد أن تخرج من عزلتها قد تسرقها الدراسة والعمل مما واجهته وقد تلجأ بنفسها إلى طبيب نفسي.. المهم ألا نلومها إطلاقا وألا نردد أن أوقات العمل تسبب في الحادث.
ستعود ابنتك «قوية» كما كانت بل أقوى لأن التجارب السيئة تقوينا ما لم تميتنا.. وستواصل حياتها مادامت في أسرة محبة متماسكة.. إنها «أزمة» ستمر إذا أدركنا أن
«الأم» هي سر ابنتها وهى الأقرب إليها.. لكن الغريب أننى لم أسمع عن دور لأختها المتزوجة.. وهل هي خارج البلاد أم أنها لا تعلم، فدورها كان حيويا في هذا التوقيت.
سأنتظر منك خطابا يبشرنى بتجاوز ابنتك لمحنتها.. وتسلحى بالصبر والإيمان معا.